خطة ستارمر للهجرة.. تشديد وقيود تُحول بريطانيا إلى "جزيرة مغلقة" أمام المهاجرين
خطة ستارمر للهجرة.. تشديد وقيود تُحول بريطانيا إلى "جزيرة مغلقة" أمام المهاجرين
في خطوة تعكس تحولاً جذريًا في نهج حزب العمال البريطاني، تخلّى الحزب عن مواقفه التاريخية المتسامحة مع المهاجرين، متبنّيًا سياسات مشددة للهجرة، في استجابة مباشرة لضغوط انتخابية متصاعدة فرضها صعود اليمين المتطرف.
فقد أعلن زعيم الحزب ورئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، عن خطط وضوابط جديدة تهدف إلى "إغلاق الحدود المفتوحة" ومنع ما وصفه بتحوّل البلاد إلى "جزيرة للغرباء"، مؤكدًا أن ضبط ملف الهجرة بات ضرورة للحفاظ على هوية المجتمع البريطاني.
وفي حديثهم لـ"جسور بوست"، عد خبراء مختصون في قضايا الهجرة والجنسية، بالإضافة إلى خبراء في القانون الدولي، أن هذه السياسات تمثل سابقة خطِرة من شأنها أن تؤدي إلى أزمات اقتصادية ومجتمعية، مشيرين إلى أن المجتمع البريطاني منذ تأسيسه قائم على التنوع والهجرة.
كما حذروا من تداعيات حقوقية جسيمة قد تنجم عن هذه الخطط، خاصة في ظل مخالفتها للاتفاقيات الدولية، وعلى رأسها الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
وكان ستارمر قد صرّح في خطاب ألقاه من مقر رئاسة الوزراء، يوم الاثنين الماضي، بأن حكومته ستتخذ إجراءات صارمة لخفض أعداد المهاجرين بشكل كبير، محذرًا من أن "بريطانيا مهددة بأن تتحول إلى جزيرة من الغرباء" إذا لم يتم فرض رقابة أكثر صرامة على الوافدين، وفق ما نقلته صحف بريطانية بارزة مثل الإندبندنت والتليغراف.
وتعهّد حزب العمال في بيانه الانتخابي لعام 2024 بخفض أعداد المهاجرين، خاصة بعد أن سجلت البلاد دخول 728 ألف شخص خلال 12 شهرًا حتى يونيو 2024، في حين بلغت ذروة الهجرة 906 آلاف عام 2023، مقارنة بمتوسط سنوي لم يتجاوز 200 ألف خلال العقد الثاني من القرن الـ21.
وتأتي هذه السياسات في إطار منافسة محتدمة مع حزب الإصلاح اليميني المتطرف بقيادة نايجل فاراج، الذي حقق تقدمًا ملحوظًا في الانتخابات المحلية الأخيرة، بحصوله على أكثر من 670 مقعدًا في المجالس المحلية إلى جانب فوزه برئاسة بلديتين.
ورغم تبنّي حزب العمال نهجًا أكثر صرامة تجاه الهجرة، فإن ذلك لم يمنع خصومه السياسيين من انتقاده. فقد وصف حزب المحافظين الخطة بأنها "راية بيضاء"، معتبراً أنها لا ترقى لحل حازم.
وقال كريس فيلب، وزير الداخلية في حكومة الظل، إن المقترحات تفتقر إلى الجدية اللازمة لمعالجة ما وصفه بـ"أزمة الهجرة".
تحول كبير
بدوره قال المحامي الدولي المختص بقضايا الهجرة والجنسية، محمد أبو شنب، في تصريح لـ"جسور بوست" إن خطة ستارمر تمثل تحولاً جذريًا في سياسة حزب العمال، بل وفي الموقف البريطاني الرسمي من ملف الهجرة، مضيفًا أنها "تنهي فعليًا تجربة الحدود المفتوحة وتشدد مسارات الاستقرار والإقامة في البلاد".
وأشار أبو شنب إلى أبرز ملامح خطة ستارمر، والتي تتألف من 7 بنود رئيسية، أهمها تمديد فترة الإقامة المؤهِّلة للحصول على الإقامة الدائمة من 5 إلى 10 سنوات، وتشديد شروط منح الجنسية لتتطلب "مساهمة فعلية ودائمة" في الاقتصاد والمجتمع.
واستطرد: "رفع مستوى اللغة الإنجليزية المطلوب للحصول على التأشيرات والإقامات، وكذلك تقليص مسارات الهجرة منخفضة المهارة، خصوصًا في قطاع الرعاية، إلى جانب زيادة الرسوم المفروضة على أصحاب العمل الذين يجلبون موظفين من خارج البلاد، وتقليص مدة الإقامة للطلاب الأجانب بعد التخرج إلى 18 شهرًا فقط، وتشديد التعامل مع المهاجرين غير النظاميين، بما في ذلك الحد من استخدام المادة 8 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، الخاصة بحق الحياة الأسرية يؤدي في النهاية إلى تقليص الهجرة غير الشرعية.
ويرى أبو شنب أن الخطة تمثّل تماهيًا غير مسبوق لحزب العمال مع الخطاب اليميني الشعبوي، وهو ما قد تكون له انعكاسات عميقة على النسيج المجتمعي البريطاني، ويفتح الباب أمام طعون قانونية محتملة على الساحة الأوروبية والدولية.
تحولات جوهرية
ويرى أبو شنب، أن الخطة الجديدة التي أعلنها رئيس الوزراء كير ستارمر ستُحدث تحولات جوهرية في أوضاع المهاجرين بمختلف فئاتهم.
وأوضح أن العمال المهرة سيواجهون شروطًا أشد صرامة، خاصة مع تمديد فترة الانتظار للحصول على الإقامة الدائمة والجنسية، مشيرًا إلى أن من يُثبت "مساهمة فعلية ومستدامة" في الاقتصاد قد يُمنح استثناءات أو مسارات أسرع نحو الاستقرار.
في المقابل، ستتضرر العمالة منخفضة المهارة بشكل مباشر نتيجة تقليص المسارات المتاحة لها وتضييق نطاق الوظائف المؤهلة للهجرة، كما توقع أبو شنب أن الطلاب الدوليين سيواجهون صعوبات كبرى في البقاء بعد التخرج، ما قد يؤثر سلبًا في قرار الدراسة في بريطانيا، نظرًا لتقليص مدة الإقامة الممنوحة بعد إنهاء الدراسة إلى 18 شهرًا فقط.
وفي ما يخص لمّ الشمل الأسري، أوضح أن الخطة تتضمن رفع متطلبات اللغة وتشديد التدقيق في جدية العلاقات الأسرية، ما قد يخلق عراقيل إضافية للأسر المهاجرة.
كما أشار إلى أن طالبي اللجوء والمهاجرين غير النظاميين سيكونون تحت ضغوط متزايدة للترحيل، مع تراجع إمكانية اللجوء إلى المادة 8 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان الخاصة بالحق في الحياة الأسرية.
تحديات حقوقية وتأثيرات اقتصادية وسياسية
وعن فرص نجاح الخطة، يرى أبو شنب أن لديها حظوظًا قوية في التمرير السياسي، لا سيما في ظل الغالبية البرلمانية الحالية لحزب العمال، لكنه حذر من أن التنفيذ سيواجه تحديات قانونية وحقوقية جدية، خصوصًا من منظمات المجتمع المدني ومحاكم حقوق الإنسان.
وأضاف أن التأثير الاقتصادي للخطة سيكون مزدوجًا: فمن جهة، قد تتضرر بعض القطاعات الحيوية من نقص في الأيدي العاملة، خاصة في الرعاية الصحية والخدمات؛ ومن جهة أخرى، قد تشكل الخطة حافزًا لتشجيع المواطنين البريطانيين على الانخراط أكثر في سوق العمل من خلال التدريب والتأهيل المهني.
وحول التأثير السياسي، يرى أبو شنب أن الخطة قد تؤدي إلى إعادة تشكيل العلاقة بين حزب العمال والمجتمعات المهاجرة، مشيرًا إلى أن الحزب الذي كان تاريخيًا الأقرب للمهاجرين، يخاطر اليوم بفقدان ثقتهم.
وأكد أن النبرة الحادة في تصريحات ستارمر، خاصة حول "الجزيرة للغرباء"، أثارت قلقًا واسعًا داخل الجاليات المهاجرة، ما قد يُفضي إلى عزوف شريحة من الناخبين من أصول مهاجرة عن دعم الحزب في الانتخابات المقبلة.
نصائح قانونية
وفيما يتعلق بكيفية تعامل المهاجرين مع هذه التغييرات المرتقبة، نصح أبو شنب بـ"الإسراع في تقديم طلبات الإقامة أو الجنسية قبل دخول التعديلات حيز التنفيذ، إلى جانب التركيز على إثبات الاندماج والمساهمة في المجتمع عبر العمل والتعليم وإتقان اللغة، وتجنّب أي مخالفات قانونية والتوعية بالحقوق القانونية المتاحة".
وأضاف ناصحًا: "النظر في بدائل الهجرة إلى دول أخرى أقل تعقيدًا من حيث الإجراءات، واستشارة قانونيين متخصصين لتقديم طلبات على أساس استثناءات إنسانية أو قانونية متاحة".
واختتم محمد أبو شنب حديثه قائلًا: "خطة ستارمر تعكس توجهاً أكثر تشددًا في سياسة الهجرة البريطانية، قد تنجح في خفض الأعداد وتحقيق استقرار سياسي مؤقت، لكنها تنطوي على تحديات قانونية واقتصادية واجتماعية عميقة. نجاحها الحقيقي مرهون بتحقيق توازن دقيق بين حماية المصالح الوطنية والحفاظ على صورة بريطانيا كدولة منفتحة وعادلة".
انتهاك محتمل
من جانبه، قال الحقوقي الدولي المختص في قوانين الهجرة واللجوء بأوروبا، عبد المجيد مراري، في تصريح لـ"جسور بوست"، إن خطة ستارمر تمثل امتدادًا لتوجه أوروبي متصاعد مناهض للمهاجرين، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بتنامي نفوذ اليمين المتطرف في القارة.
وأكد مراري أن الخطة تُعد مخالفة صريحة للقانون الدولي، وخصوصًا الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مضيفًا أن مثل هذه السياسات لا تخرج عن إطار "مجاراة الخطاب اليميني المتطرف لأسباب انتخابية، وليس لأسباب موضوعية تتعلق بالأمن القومي أو الاقتصاد".
وأوضح أن "أوروبا بُنيت تاريخيًا على جهود المهاجرين"، وأن "التضييق عليهم اليوم يتناقض مع المبادئ القانونية التي أسّست لها هذه الدول"، معرباً عن استغرابه من صدور مثل هذه التصريحات والسياسات من حزب العمال، الذي كان يُعرف بدعمه للمهاجرين وحقوقهم.
وأضاف: "من حق أي دولة أن تحافظ على أمنها وحدودها، لكن ذلك يجب ألا يتعارض مع التزاماتها القانونية والإنسانية، وأن معالجة المخاوف يجب أن تكون عبر حلول اجتماعية واقتصادية وليس تحت ضغط انتخابي".
وتوقع مراري أن تواجه الخطة ممانعة داخل الشارع البريطاني، على غرار ما يحدث في عدد من الدول الأوروبية، مشيرًا إلى وجود تنسيق متزايد بين مكونات المجتمع المدني في بريطانيا، إلى جانب جدل واسع داخل البرلمان.
واختتم مراري حديثه محذرًا من أن تنفيذ هذه الخطة قد يُحدث "كارثة حقوقية" بحق المهاجرين في بريطانيا، ويؤثر سلبًا في سمعة البلاد كونها وجهة آمنة للمهاجرين واللاجئين.